هل يعترف العالم بغير الأقوياء، وكيف تستعيد الأمة الإسلامية ق
هل يعترف العالم بغير الأقوياء، وكيف تستعيد الأمة الإسلامية ق
هل يعترف العالم بغير الأقوياء، وكيف تستعيد الأمة الإسلامية قوتها؟
دعا المفكر الإسلامي المعروف الدكتور أحمد كمال أبوالمجد الأمة الإسلامية إلى التعاون لاستعادة قوتها ونهضتها وريادتها بين أمم الأرض في هذا العالم الذي لم يعد يعترف بغير الأقوياء، مشيراً إلى أن >النهضة< ليست مجرد أمنية يتمناها الإنسان فتتحقق، كما أن أسبابها ليست سراً يستعصي على المسلمين الوصول إليه·
وحذّر من أن المسلمين يعانون في الحاضر حيرة ثقافية بين تيارات الجمود والرتابة والتقليد والتجديد، وقال: إن النهضة ستظل أمنية بعيدة التحقيق إذا استمرت العقول معطلة والعلم غائباً·
وأوضح أنه لا يجوز الانشغال بالحديث عن أمجاد قديمة غابرة وإهمال بناء الحاضر والمستقبل، ومواجهة التحديات المتعاظمة والتغيرات العالمية المتسارعة·
وتساءل الدكتور أحمد كمال أبوالمجد ـ مفوض حوار الحضارات بجامعة الدول العربية ـ إلى متى يعتمد المسلمون في غذائهم وكسائهم ودوائهم وسلاحهم على خصومهم؟ وطالب بتطوير أجهزة وبرامج التعليم والإعلام والثقافة في الدول الإسلامية لتشجيع الابتكار والإبداع، والعمل على اللحاق بركب التقدم العلمي في العالم، حتى لا يكتشف المسلمون، بعد فوات الأوان، أنهم في آخر الصفوف، أو أنهم انعزلوا عن العصر الذي يعيشون فيه· كما حذَّر من أن المسلمين ـ في كثير من المواقع ـ يواجهون غربة عن العالم الذي أخذ يسيء الظن بهم، ولا يريد أن يفسح لهم مكاناً بين شعوبه·
وفي الحوار التالي نتعرف إلى المزيد من آرائه·
> هناك تغيرات كبرى متلاحقة يشهدها العالم منذ سنوات في ميادين كثيرة، الأمر الذي وصفه بعضهم بأنه يقود إلى عالم جديد يبحث الجميع فيه عن المكان والمكانة حتى لا ينعزلوا عن مسيرة البشرية··· فكيف ترى واقع المسلمين من تلك التغيرات؟ وهل تعتقد أنهم استعدوا لمواجهتها والتفاعل معها؟
ـ لقد شهد العالم في السنوات الأخيرة سلسلة متصلة من التغيرات الكبرى في ميادين العلم والصناعة، وفي موازين القوى السياسية والاقتصادية بين شعوب العالم، وكان من ثمرات ذلك أن تساءل الأفراد، كما تساءلت الشعوب عن مكانها المنتظر وعن مكانتها المرجوة على خارطة عالم يبدو جديداً في الكثير من معالمه، كما يبدو جديداً في الأنساق والقواعد التي تحكم حركة الناس فيه·
ولم يكن المسلمون استثناء من هذا الذي يجري، ومن ثمَّ تعالت الصيحات، وانتشرت التساؤلات عن طبيعة العلاقة الجديدة التي ينتظر أن تربط المسلمين بسائر الناس في هذا العصر الجديد·
كما عكف الباحثون من العلماء وأولي الأمر من الحكام على دراسة الشروط اللازمة لدخول المسلمين في هذا العصر الجديد، وكذلك عكفوا لإحداث تغيير نوعي في أوضاع المسلمين يضمن لهم مكانة لائقة بين شعوب الدنيا، ويحفظ عليهم هويتهم الثقافية والحضارية، كما يوفر الحماية لمصالحهم الاقتصادية والسياسية·
ولما كان الأمر في هذا أمر مستقبل ومصير، فإن إحكام منهج البحث فيه يغدو ضرورة لا يجوز التفريط فيها، أو الترخص في شأنها، لأن هذا الترخص يوقع ـ لا محالة ـ في أخطاء فادحة تدفع الأجيال اللاحقة ثمنها الباهظ، وتتحمل نتائجها وعواقبها الوخيمة·
إن الأمر لم يعد يحتمل منهج المكابرة في وجه الحقائق، أو الإسراف في الاعتذار عن الثغرات والنقائص، أو التقصير في رصد عناصر الواقع عندنا وعند غيرنا، أو الاكتفاء بالحديث عن أمجاد قديمة غابرة، والاشتغال بذلك الحديث عن معالجة حاضر يوشك أن يفضي إلى مستقبل مقبل لا محالة·
تغيير واقع الأمة >د· أكدتم أن الأمة الإسلامية في حاجة إلى تهيئة واقعها ودعمه بما يحقق مشاركتها في توجيه مسيرة البشرية نحو العالم الجديد حتى لا تنعزل عن ذلك إن هي لم تشارك في تكوينه وتوجيهه··· أليس كذلك؟ وما ملامح هذه التهيئة المطلوبة؟
ـ لا شك أن المنهج الوحيد الصحيح في معالجة هذا الأمر هو منهج رصد عناصر الواقع في دقة واستقصاء، وفي موضوعية وشجاعة، واستخدام هذا الرصد بعد ذلك في تغيير واقع الأمة التغيير اللازم لتحقيق نهضتها وزيادة قدرتها على مشاركة سائر الأمم والشعوب في مسيرتها نحو العصر الجديد الذي تتغير كل يوم معالمه··· وهي مسيرة تتسابق فيها الأمم بالقدرة وسرعة الحركة وقوة الفعل، ولا يجدي فيها مطلقاً أي حديث عن ماض مجيد، أو وعد إلهي بالنصر نعلم جميعاً أنه وعد مشروط باتباع السنن والأسباب وربط الكلمة الطيبة بالفعل المؤثر··· قال تعالى: (لِمَ تقولون ما لا تفعلون· كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) الصف:2ـ3· إن تناولنا لواقع المسلمين في مواجهة تغيرات العصر يقتضينا أن نضع أيدينا في وضوح تام على جوهر التغيرات الحادة التي تحدث، والتي من شأنها أن تجعل من المستقبل القريب عالماً جديداً يحتاج الناس جميعاً ـ ونحن المسلمين منهم ـ إلى أن يتوافقوا معه، ومع عناصره الجديدة· كما ينبغي أن نرصد واقع المسلمين بخيره وشره··· ما نحب منه وما نكره، لنصل من ذلك كله إلى توجيه مسيرتنا نحو تغيير واقعنا، استيفاء لشروط النهضة، واستشرافاً لمستقبل أكثر إشراقاً تستطيع فيه الأمة أن تؤدي دورها الحضاري الذي بعثها الله لأدائه، وهو دور ترشيد حركة الناس والشعوب بقيم الحق والخير والعدل التي أوحى بها الله سبحانه وتعالى إلى رسله، والتي توجتها الرسالة الخاتمة التي جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم· ظواهر مهمة
> في رأيكم··· ما أهم المتغيرات العصرية التي ينبغي أن تستلفت جهود المسلمين في إطار جهود تهيئة >واقع الأمة< للمشاركة في صياغة وتوجيه النظام العالمي الجديد؟ ـ العصر الذي نتحدث عنه يحمل سمات لا يخطئها أحد من الباحثين، أولاها الثورات العلمية والصناعية قد تعاقبت وتسارعت خطاها، وصار التغيير المترتب عليها يتم بمتوالية هندسية، لأن كل اكتشاف علمي يحمل في ثناياه اكتشافات جديدة تتولد منه·
وقد وقعت هذه الثورات العلمية في ميادين كثيرة، لعل أخطرها ما وقع في مجالات المواصلات والاتصالات، وكان من شأن هذه الثورات سقوط حواجز المكان والزمان، فتهاوت الأسوار الفاصلة بين الناس والشعوب، فتحرك الناس بأجسامهم وحواسهم وعقولهم ومعارفهم من أدنى الأرض إلى أقصاها، وصاروا يستقبلون كل يوم آلاف الإشارات من كل فج عميق· وصارت الدنيا ـ كما يقال بحق ـ أشبه بقرية واحدة وإن ظن أهلها غير ذلك، وشهدت السنوات الأخيرة ظواهر مهمة··· منها: انهيار النظام الدولي الذي ظل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قائماً على الثنائية الاقتصادية··· وفوجئت الدنيا ذات صباح باختفاء أحد القطبين، كما لو كانت قدماه قد ساختا فجأة في رمال ناعمة ابتلعته في لحظات، وتهاوت باختفائه نظريات ومقررات فلسفات، دون أن يكون ذلك وحده دليلاً على صلاح القطب الباقي، وما يمثله من قيم ورؤى وفلسفات·
ولا تزال الدنيا حائرة تنتظر قيام نظام دولي جديد لا يستطيع أن يزعم أحد أن معالمه قد تحددت، أو أن القواعد الضابطة للعلاقات في ظله قد تم إقرارها والاتفاق عليها·
ويُضاف إلى ذلك ظهور إحساس متزايد من الجميع بوجود أخطار عالمية تشترك في التعرض لها جميع الشعوب على اختلاف جذورها الثقافية، وأصولها الحضارية··· في مقدمها أخطار تلوث البيئة، ونفاد الموارد الطبيعية، وظهور أمراض وأوبئة تخطت حدود الدول وانتشرت في الأرض، وأوشكت أن تهلك الشعوب··· كما تفاقمت وازدادت أخطار العنف الفردي والجماعي وأهوال الإرهاب·
وازداد الإحساس بالحاجة إلى جهود مشتركة تتخطى حدود الثقافات والمصالح القطرية، لمواجهة تلك الأخطار الجديدة الطارئة·
نهضة علمية
> هناك من يرى أن الواقع المعاصر لأمتنا الإسلامية يشتمل على مظاهر سلبية ينبغي التخلص منها حتى تنجح عملية المشاركة الإسلامية في صياغة وتوجيه النظام العالمي الجديد، ويؤكد هؤلاء أنه دون القضاء على تلك السلبيات تبقى أمتنا عاجزة تماماً عن اللحاق بمتغيرات العصر، علاوة على التفاعل معها··· فكيف ترون ذلك؟ ـ ينبغي أن نواجه أنفسنا بصراحة، وأن نتعامل مع واقعنا بمصداقية، فما أحوجنا إلى التخلص من مختلف السلبيات التي تعوق مسيرة انطلاق المسلمين لمواكبة التغيرات العالمية المتسارعة··· ومن الصراحة والمصداقية أن ندرك أن المسلمين يواجهون أزمات ثلاث··· هي:
أولاً: في مجال التقدم العلمي والاقتصادي أمة مسبوقة، لم تسهم خلال السنوات المئة الأخيرة إسهاماً مذكوراً في النهضة العلمية التي تسارعت خطاها في الغرب، والتي أثمرت ثورات علمية وصناعية ظلننا نقنع بالتحدث عنها، والتفرج عليها دون أن يكون لنا فيها دور مذكور· ولا تزال أمتنا أمة مستوردة، وأمة مستهلكة··· لا هي منتجة، ولا هي مصدرة··· ومازلنا نعتمد في غذائنا وكسائنا ودوائنا وسلاحنا على ما تنتجه وتبيعه لنا أمم أخرى، تتحكم بذلك كله في مستقبلنا ومصيرنا·
ثانياً: إن المسلمين ـ وأرجو ألا تغضب صراحتي أحداً ـ أمة منقسمة على نفسها، لا تكاد تجمع أمرها على شيء، ولا تزال >الوحدة< مطلباً يتحدث عنه الكتَّاب والساسة، ويكذِّبه الواقع المعاش، ويزداد كل يوم تنكراً له، وابتعاداً عنه·
ثالثاً: إن المسلمين ـ في الغالب ـ يعانون حيرة ثقافية هائلة، وتتوزعهم تيارات الجمود والرتابة، والوقوف عند ظواهر النصوص وتقليد الأقدمين، وتيارات التجديد، ومحاولة التواصل مع العصر عن طريق تجديد الفكر، ومتابعة الاجتهاد في الفقه، واتساع العقول والصدور للإفادة من تجارب الآخرين·
ولا تزال الساحة الثقافية مشغولة، بما يشبه الحرب الأهلية بين دعاة الجمود والتقليد، ودعاة الاجتهاد والتجديد· وهي حرب تستهلك طاقة الأمة، وتكاد تقعد بها عن الحركة، وتحول بينها وبين التوجه للمستقبل، ومواجهة تحدياته المقبلة التي توشك أن تدق على الجميع الأبواب·
والمسلمون ـ لذلك كله ـ يواجهون غربة عن العالم الذي أخذ يسيء الظن بهم، ولا يريد أن يفسح لهم مكاناً بين شعوبه، والذي توجَّه تيار عريض من مفكريه وساسته إلى تشويه صورة الإسلام والمسلمين في حملة مشبوهة البواعث تحتاج مواجهتها إلى جهد جهيد·
إعلاء شأن العقل
> حديثكم عن ما تعانيه الأمة الإسلامية حالياً من أزمات تعوق مسيرتها يضعنا أمام تساؤل مهم··· هو: كيف السبيل إذاً لتحقيق نهضة الأمة، ومواجهة المتغيرات الكبرى التي يشهدها عالم اليوم حتى لا ينعزل المسلمون عن ركب الحضارة في هذا العالم الذي لا مكان فيه للضعفاء والمتخلفين والمفككين؟
ـ أمتنا الإسلامية مطالبة بأن تدرك دائماً حقيقة أن لله عز وجل في خلقه سنناً لا تتبدل، وقوانين لا يعفى منها أحد مهما كان··· كما أن أمتنا الإسلامية مطالبة بأن تدرك حقيقة أخرى مهمة هي أن النهضة ليست أمنية يتمناها الإنسان فتتحقق، أو أن أسبابها من الأسرار التي يستعصي على الإنسان، وبخاصة المسلم، الوصول إليها وكشفها·
إن النهضة لها شروطها التي لا تتخلف··· فمن أخذ بها نجح في تحقيق نهضته، ومن تخلَّى عن تلك الشروط وأهملها فشل في ذلك··· ومن أهم شروط تحقيق النهضة إعلاء شأن العقل من جديد في ثقافة المسلمين، بل في حياتهم كلها·
فالمؤسف أن بعضهم غيَّب العقل عن ثقافتنا وعن حياتنا اليومية، ومن ثمَّ انتشرت بيننا نوع من الغيبة التي لا أصل لها في ديننا، وتصور كثير من الناس أن النقل يغني عن العقل، وأن النصوص وحدها قادرة على تحقيق النهضة، والتقدم العلمي والتكنولوجي، وذلك وهم لا بد من محاربته حتى تعاود الأمة انطلاقها على طريق النهضة، واستعادة ريادتها العلمية بين مختلف أمم الأرض·
ولا شك في أن شعوب الأرض في عصرنا هذا أصبحت تدرك عن يقين أن العلم أصبح معيار التقدم، وأساس تصنيف الشعوب إلى شعوب قوية وأخرى ضعيفة، وكذلك إلى شعوب متقدمة وأخرى متخلفة··· كما أن العلم صار أكثر قيمة وفاعلية، بما يجلبه من المواد الأولية والمواد الخام، ومن الأسلحة التي تكسب بها الحروب·
ومن هنا تبرز أهمية تطوير الأنظمة التعليمية والإعلامية والثقافية بما يعيد للعقل سلطانه، فذلك هو الشرط الأول من شروط تحقيق النهضة إذا كنا جادين في ذلك·
ويمكننا القول بكل اطمئنان: إن النهضة سوف تظل أمنية بعيدة المنال إذا ظلت العقول معطلة، والعلم غائباً، وكذلك إذا استمرت القدرة على ممارسة النقد سنة متروكة وملكة ضائعة· أما ثاني الشروط اللازمة لتحقيق النهضة، فيتمثل في ضرورة أن تتخلص الأمة من آفة الكلام الكثير، وتسرع إلى العمل الجاد المخلص، فالمؤسف أن أمتنا شبه غارقة في طوفان من الكلام لا أمل فيه، ولا رجاء من ورائه·
يجب على أمتنا أن تتجه إلى العمل الجاد الذي كان، ولا يزال، شعاراً لحضارتنا الإسلامية، والقرآن الكريم يهتف في المسلمين صباح مساء: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنت تعملون) التوبة: 105· المأسوف له أن واقع أمتنا يؤكد تراجع قيمة العمل في حياة المسلمين تراجعاً هائلاً في كمه ونوعه، وفي إتقان أدائه·
ولا يخفى أنه من متطلبات نجاح العمل في الإسلام حسن الأداء والإحسان والإتقان، لأنه لا يمكن أن يثبت في ساحة المنافسة أي عمل غير مجوَّد، ولا أداء غير متقن، فالله عز وجل قد كتب الإحسان على كل شيء·
ومن أهم شروط النهضة أيضاً إطلاق النفوس من إسارها، وتحرير الملكات من قيودها، وتوفير الحرية للإنسان المسلم في كل حياته·
ومن تلك الشروط أيضاً تحرُّك الهمة، وعقد النية، فرب همة أحيت أمة··· وهذه الهمة هي التي تنقل الأمة من السكون إلى الحركة، ومن الانكفاء على الماضي إلى التوجه للمستقبل، وهي التي تنقل الجيل كله من الحيرة والإحباط إلى الأمل واتساع الرجاء·
إن رحى السباق دائرة، والزمن يتحرك في سرعة مذهلة، ونحن لا نملك إبطاء الخطى أو التردد في ضرورة العمل للحاق بركب التقدم، كما لا نملك أبداً أن ننعزل عن الدنيا أو أن نعتزل القافلة·
وإذا كان المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، فإن سبيل القوة هي الإيجابية والإقدام لا السلبية والانسحاب، ولا محل بعد ذلك لتردد، ولا مكان لعجز، ولا عذر لتخلف·
__________________
دعا المفكر الإسلامي المعروف الدكتور أحمد كمال أبوالمجد الأمة الإسلامية إلى التعاون لاستعادة قوتها ونهضتها وريادتها بين أمم الأرض في هذا العالم الذي لم يعد يعترف بغير الأقوياء، مشيراً إلى أن >النهضة< ليست مجرد أمنية يتمناها الإنسان فتتحقق، كما أن أسبابها ليست سراً يستعصي على المسلمين الوصول إليه·
وحذّر من أن المسلمين يعانون في الحاضر حيرة ثقافية بين تيارات الجمود والرتابة والتقليد والتجديد، وقال: إن النهضة ستظل أمنية بعيدة التحقيق إذا استمرت العقول معطلة والعلم غائباً·
وأوضح أنه لا يجوز الانشغال بالحديث عن أمجاد قديمة غابرة وإهمال بناء الحاضر والمستقبل، ومواجهة التحديات المتعاظمة والتغيرات العالمية المتسارعة·
وتساءل الدكتور أحمد كمال أبوالمجد ـ مفوض حوار الحضارات بجامعة الدول العربية ـ إلى متى يعتمد المسلمون في غذائهم وكسائهم ودوائهم وسلاحهم على خصومهم؟ وطالب بتطوير أجهزة وبرامج التعليم والإعلام والثقافة في الدول الإسلامية لتشجيع الابتكار والإبداع، والعمل على اللحاق بركب التقدم العلمي في العالم، حتى لا يكتشف المسلمون، بعد فوات الأوان، أنهم في آخر الصفوف، أو أنهم انعزلوا عن العصر الذي يعيشون فيه· كما حذَّر من أن المسلمين ـ في كثير من المواقع ـ يواجهون غربة عن العالم الذي أخذ يسيء الظن بهم، ولا يريد أن يفسح لهم مكاناً بين شعوبه·
وفي الحوار التالي نتعرف إلى المزيد من آرائه·
> هناك تغيرات كبرى متلاحقة يشهدها العالم منذ سنوات في ميادين كثيرة، الأمر الذي وصفه بعضهم بأنه يقود إلى عالم جديد يبحث الجميع فيه عن المكان والمكانة حتى لا ينعزلوا عن مسيرة البشرية··· فكيف ترى واقع المسلمين من تلك التغيرات؟ وهل تعتقد أنهم استعدوا لمواجهتها والتفاعل معها؟
ـ لقد شهد العالم في السنوات الأخيرة سلسلة متصلة من التغيرات الكبرى في ميادين العلم والصناعة، وفي موازين القوى السياسية والاقتصادية بين شعوب العالم، وكان من ثمرات ذلك أن تساءل الأفراد، كما تساءلت الشعوب عن مكانها المنتظر وعن مكانتها المرجوة على خارطة عالم يبدو جديداً في الكثير من معالمه، كما يبدو جديداً في الأنساق والقواعد التي تحكم حركة الناس فيه·
ولم يكن المسلمون استثناء من هذا الذي يجري، ومن ثمَّ تعالت الصيحات، وانتشرت التساؤلات عن طبيعة العلاقة الجديدة التي ينتظر أن تربط المسلمين بسائر الناس في هذا العصر الجديد·
كما عكف الباحثون من العلماء وأولي الأمر من الحكام على دراسة الشروط اللازمة لدخول المسلمين في هذا العصر الجديد، وكذلك عكفوا لإحداث تغيير نوعي في أوضاع المسلمين يضمن لهم مكانة لائقة بين شعوب الدنيا، ويحفظ عليهم هويتهم الثقافية والحضارية، كما يوفر الحماية لمصالحهم الاقتصادية والسياسية·
ولما كان الأمر في هذا أمر مستقبل ومصير، فإن إحكام منهج البحث فيه يغدو ضرورة لا يجوز التفريط فيها، أو الترخص في شأنها، لأن هذا الترخص يوقع ـ لا محالة ـ في أخطاء فادحة تدفع الأجيال اللاحقة ثمنها الباهظ، وتتحمل نتائجها وعواقبها الوخيمة·
إن الأمر لم يعد يحتمل منهج المكابرة في وجه الحقائق، أو الإسراف في الاعتذار عن الثغرات والنقائص، أو التقصير في رصد عناصر الواقع عندنا وعند غيرنا، أو الاكتفاء بالحديث عن أمجاد قديمة غابرة، والاشتغال بذلك الحديث عن معالجة حاضر يوشك أن يفضي إلى مستقبل مقبل لا محالة·
تغيير واقع الأمة >د· أكدتم أن الأمة الإسلامية في حاجة إلى تهيئة واقعها ودعمه بما يحقق مشاركتها في توجيه مسيرة البشرية نحو العالم الجديد حتى لا تنعزل عن ذلك إن هي لم تشارك في تكوينه وتوجيهه··· أليس كذلك؟ وما ملامح هذه التهيئة المطلوبة؟
ـ لا شك أن المنهج الوحيد الصحيح في معالجة هذا الأمر هو منهج رصد عناصر الواقع في دقة واستقصاء، وفي موضوعية وشجاعة، واستخدام هذا الرصد بعد ذلك في تغيير واقع الأمة التغيير اللازم لتحقيق نهضتها وزيادة قدرتها على مشاركة سائر الأمم والشعوب في مسيرتها نحو العصر الجديد الذي تتغير كل يوم معالمه··· وهي مسيرة تتسابق فيها الأمم بالقدرة وسرعة الحركة وقوة الفعل، ولا يجدي فيها مطلقاً أي حديث عن ماض مجيد، أو وعد إلهي بالنصر نعلم جميعاً أنه وعد مشروط باتباع السنن والأسباب وربط الكلمة الطيبة بالفعل المؤثر··· قال تعالى: (لِمَ تقولون ما لا تفعلون· كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) الصف:2ـ3· إن تناولنا لواقع المسلمين في مواجهة تغيرات العصر يقتضينا أن نضع أيدينا في وضوح تام على جوهر التغيرات الحادة التي تحدث، والتي من شأنها أن تجعل من المستقبل القريب عالماً جديداً يحتاج الناس جميعاً ـ ونحن المسلمين منهم ـ إلى أن يتوافقوا معه، ومع عناصره الجديدة· كما ينبغي أن نرصد واقع المسلمين بخيره وشره··· ما نحب منه وما نكره، لنصل من ذلك كله إلى توجيه مسيرتنا نحو تغيير واقعنا، استيفاء لشروط النهضة، واستشرافاً لمستقبل أكثر إشراقاً تستطيع فيه الأمة أن تؤدي دورها الحضاري الذي بعثها الله لأدائه، وهو دور ترشيد حركة الناس والشعوب بقيم الحق والخير والعدل التي أوحى بها الله سبحانه وتعالى إلى رسله، والتي توجتها الرسالة الخاتمة التي جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم· ظواهر مهمة
> في رأيكم··· ما أهم المتغيرات العصرية التي ينبغي أن تستلفت جهود المسلمين في إطار جهود تهيئة >واقع الأمة< للمشاركة في صياغة وتوجيه النظام العالمي الجديد؟ ـ العصر الذي نتحدث عنه يحمل سمات لا يخطئها أحد من الباحثين، أولاها الثورات العلمية والصناعية قد تعاقبت وتسارعت خطاها، وصار التغيير المترتب عليها يتم بمتوالية هندسية، لأن كل اكتشاف علمي يحمل في ثناياه اكتشافات جديدة تتولد منه·
وقد وقعت هذه الثورات العلمية في ميادين كثيرة، لعل أخطرها ما وقع في مجالات المواصلات والاتصالات، وكان من شأن هذه الثورات سقوط حواجز المكان والزمان، فتهاوت الأسوار الفاصلة بين الناس والشعوب، فتحرك الناس بأجسامهم وحواسهم وعقولهم ومعارفهم من أدنى الأرض إلى أقصاها، وصاروا يستقبلون كل يوم آلاف الإشارات من كل فج عميق· وصارت الدنيا ـ كما يقال بحق ـ أشبه بقرية واحدة وإن ظن أهلها غير ذلك، وشهدت السنوات الأخيرة ظواهر مهمة··· منها: انهيار النظام الدولي الذي ظل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قائماً على الثنائية الاقتصادية··· وفوجئت الدنيا ذات صباح باختفاء أحد القطبين، كما لو كانت قدماه قد ساختا فجأة في رمال ناعمة ابتلعته في لحظات، وتهاوت باختفائه نظريات ومقررات فلسفات، دون أن يكون ذلك وحده دليلاً على صلاح القطب الباقي، وما يمثله من قيم ورؤى وفلسفات·
ولا تزال الدنيا حائرة تنتظر قيام نظام دولي جديد لا يستطيع أن يزعم أحد أن معالمه قد تحددت، أو أن القواعد الضابطة للعلاقات في ظله قد تم إقرارها والاتفاق عليها·
ويُضاف إلى ذلك ظهور إحساس متزايد من الجميع بوجود أخطار عالمية تشترك في التعرض لها جميع الشعوب على اختلاف جذورها الثقافية، وأصولها الحضارية··· في مقدمها أخطار تلوث البيئة، ونفاد الموارد الطبيعية، وظهور أمراض وأوبئة تخطت حدود الدول وانتشرت في الأرض، وأوشكت أن تهلك الشعوب··· كما تفاقمت وازدادت أخطار العنف الفردي والجماعي وأهوال الإرهاب·
وازداد الإحساس بالحاجة إلى جهود مشتركة تتخطى حدود الثقافات والمصالح القطرية، لمواجهة تلك الأخطار الجديدة الطارئة·
نهضة علمية
> هناك من يرى أن الواقع المعاصر لأمتنا الإسلامية يشتمل على مظاهر سلبية ينبغي التخلص منها حتى تنجح عملية المشاركة الإسلامية في صياغة وتوجيه النظام العالمي الجديد، ويؤكد هؤلاء أنه دون القضاء على تلك السلبيات تبقى أمتنا عاجزة تماماً عن اللحاق بمتغيرات العصر، علاوة على التفاعل معها··· فكيف ترون ذلك؟ ـ ينبغي أن نواجه أنفسنا بصراحة، وأن نتعامل مع واقعنا بمصداقية، فما أحوجنا إلى التخلص من مختلف السلبيات التي تعوق مسيرة انطلاق المسلمين لمواكبة التغيرات العالمية المتسارعة··· ومن الصراحة والمصداقية أن ندرك أن المسلمين يواجهون أزمات ثلاث··· هي:
أولاً: في مجال التقدم العلمي والاقتصادي أمة مسبوقة، لم تسهم خلال السنوات المئة الأخيرة إسهاماً مذكوراً في النهضة العلمية التي تسارعت خطاها في الغرب، والتي أثمرت ثورات علمية وصناعية ظلننا نقنع بالتحدث عنها، والتفرج عليها دون أن يكون لنا فيها دور مذكور· ولا تزال أمتنا أمة مستوردة، وأمة مستهلكة··· لا هي منتجة، ولا هي مصدرة··· ومازلنا نعتمد في غذائنا وكسائنا ودوائنا وسلاحنا على ما تنتجه وتبيعه لنا أمم أخرى، تتحكم بذلك كله في مستقبلنا ومصيرنا·
ثانياً: إن المسلمين ـ وأرجو ألا تغضب صراحتي أحداً ـ أمة منقسمة على نفسها، لا تكاد تجمع أمرها على شيء، ولا تزال >الوحدة< مطلباً يتحدث عنه الكتَّاب والساسة، ويكذِّبه الواقع المعاش، ويزداد كل يوم تنكراً له، وابتعاداً عنه·
ثالثاً: إن المسلمين ـ في الغالب ـ يعانون حيرة ثقافية هائلة، وتتوزعهم تيارات الجمود والرتابة، والوقوف عند ظواهر النصوص وتقليد الأقدمين، وتيارات التجديد، ومحاولة التواصل مع العصر عن طريق تجديد الفكر، ومتابعة الاجتهاد في الفقه، واتساع العقول والصدور للإفادة من تجارب الآخرين·
ولا تزال الساحة الثقافية مشغولة، بما يشبه الحرب الأهلية بين دعاة الجمود والتقليد، ودعاة الاجتهاد والتجديد· وهي حرب تستهلك طاقة الأمة، وتكاد تقعد بها عن الحركة، وتحول بينها وبين التوجه للمستقبل، ومواجهة تحدياته المقبلة التي توشك أن تدق على الجميع الأبواب·
والمسلمون ـ لذلك كله ـ يواجهون غربة عن العالم الذي أخذ يسيء الظن بهم، ولا يريد أن يفسح لهم مكاناً بين شعوبه، والذي توجَّه تيار عريض من مفكريه وساسته إلى تشويه صورة الإسلام والمسلمين في حملة مشبوهة البواعث تحتاج مواجهتها إلى جهد جهيد·
إعلاء شأن العقل
> حديثكم عن ما تعانيه الأمة الإسلامية حالياً من أزمات تعوق مسيرتها يضعنا أمام تساؤل مهم··· هو: كيف السبيل إذاً لتحقيق نهضة الأمة، ومواجهة المتغيرات الكبرى التي يشهدها عالم اليوم حتى لا ينعزل المسلمون عن ركب الحضارة في هذا العالم الذي لا مكان فيه للضعفاء والمتخلفين والمفككين؟
ـ أمتنا الإسلامية مطالبة بأن تدرك دائماً حقيقة أن لله عز وجل في خلقه سنناً لا تتبدل، وقوانين لا يعفى منها أحد مهما كان··· كما أن أمتنا الإسلامية مطالبة بأن تدرك حقيقة أخرى مهمة هي أن النهضة ليست أمنية يتمناها الإنسان فتتحقق، أو أن أسبابها من الأسرار التي يستعصي على الإنسان، وبخاصة المسلم، الوصول إليها وكشفها·
إن النهضة لها شروطها التي لا تتخلف··· فمن أخذ بها نجح في تحقيق نهضته، ومن تخلَّى عن تلك الشروط وأهملها فشل في ذلك··· ومن أهم شروط تحقيق النهضة إعلاء شأن العقل من جديد في ثقافة المسلمين، بل في حياتهم كلها·
فالمؤسف أن بعضهم غيَّب العقل عن ثقافتنا وعن حياتنا اليومية، ومن ثمَّ انتشرت بيننا نوع من الغيبة التي لا أصل لها في ديننا، وتصور كثير من الناس أن النقل يغني عن العقل، وأن النصوص وحدها قادرة على تحقيق النهضة، والتقدم العلمي والتكنولوجي، وذلك وهم لا بد من محاربته حتى تعاود الأمة انطلاقها على طريق النهضة، واستعادة ريادتها العلمية بين مختلف أمم الأرض·
ولا شك في أن شعوب الأرض في عصرنا هذا أصبحت تدرك عن يقين أن العلم أصبح معيار التقدم، وأساس تصنيف الشعوب إلى شعوب قوية وأخرى ضعيفة، وكذلك إلى شعوب متقدمة وأخرى متخلفة··· كما أن العلم صار أكثر قيمة وفاعلية، بما يجلبه من المواد الأولية والمواد الخام، ومن الأسلحة التي تكسب بها الحروب·
ومن هنا تبرز أهمية تطوير الأنظمة التعليمية والإعلامية والثقافية بما يعيد للعقل سلطانه، فذلك هو الشرط الأول من شروط تحقيق النهضة إذا كنا جادين في ذلك·
ويمكننا القول بكل اطمئنان: إن النهضة سوف تظل أمنية بعيدة المنال إذا ظلت العقول معطلة، والعلم غائباً، وكذلك إذا استمرت القدرة على ممارسة النقد سنة متروكة وملكة ضائعة· أما ثاني الشروط اللازمة لتحقيق النهضة، فيتمثل في ضرورة أن تتخلص الأمة من آفة الكلام الكثير، وتسرع إلى العمل الجاد المخلص، فالمؤسف أن أمتنا شبه غارقة في طوفان من الكلام لا أمل فيه، ولا رجاء من ورائه·
يجب على أمتنا أن تتجه إلى العمل الجاد الذي كان، ولا يزال، شعاراً لحضارتنا الإسلامية، والقرآن الكريم يهتف في المسلمين صباح مساء: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنت تعملون) التوبة: 105· المأسوف له أن واقع أمتنا يؤكد تراجع قيمة العمل في حياة المسلمين تراجعاً هائلاً في كمه ونوعه، وفي إتقان أدائه·
ولا يخفى أنه من متطلبات نجاح العمل في الإسلام حسن الأداء والإحسان والإتقان، لأنه لا يمكن أن يثبت في ساحة المنافسة أي عمل غير مجوَّد، ولا أداء غير متقن، فالله عز وجل قد كتب الإحسان على كل شيء·
ومن أهم شروط النهضة أيضاً إطلاق النفوس من إسارها، وتحرير الملكات من قيودها، وتوفير الحرية للإنسان المسلم في كل حياته·
ومن تلك الشروط أيضاً تحرُّك الهمة، وعقد النية، فرب همة أحيت أمة··· وهذه الهمة هي التي تنقل الأمة من السكون إلى الحركة، ومن الانكفاء على الماضي إلى التوجه للمستقبل، وهي التي تنقل الجيل كله من الحيرة والإحباط إلى الأمل واتساع الرجاء·
إن رحى السباق دائرة، والزمن يتحرك في سرعة مذهلة، ونحن لا نملك إبطاء الخطى أو التردد في ضرورة العمل للحاق بركب التقدم، كما لا نملك أبداً أن ننعزل عن الدنيا أو أن نعتزل القافلة·
وإذا كان المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، فإن سبيل القوة هي الإيجابية والإقدام لا السلبية والانسحاب، ولا محل بعد ذلك لتردد، ولا مكان لعجز، ولا عذر لتخلف·
__________________
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى